ما و ُ ْ َ ث ا د ا ارا قد ˘ˇط de téléchargement/1AS/lettre... · 5 *١...

411
1 قلم وحي الُ ْ َ الثد الثمجل الدق الرافعي مصطفى صا قام بفھرسته وترتيبه والسنةحث في القرآنلبا ايف الش نا علي بن ح ود

Transcript of ما و ُ ْ َ ث ا د ا ارا قد ˘ˇط de téléchargement/1AS/lettre... · 5 *١...

  • 1

    ُوحي القلم ْ َ المجلد الثالث

    مصطفى صادق الرافعي

    قام بفھرسته وترتيبه &الباحث في القرآن والسنة

    ودحعلي بن نايف الش

  • 2

    المجلد الثالثالمجلد الثالثالمجلد الثالثالمجلد الثالثمحتويات محتويات محتويات محتويات السمو الروحي األعظم والجمال الفني في البالغة النبوية

    ١قرآن الفجر ل باعتبارها من مقومات االستقال١اللغة والدين والعادات

    * رسالة األزهر في القرن العشرين١:تجديد اإلسالم األسد

    األحمدية أمراء للبيع "١"العجوزان "٢* "العجوزان

    "٣"العجوزان "٤"العجوازن

    ١السطر األخير من القصة ١عاصفة القدر

    "١"القلب المسكين "٢"القلب المسكين "٣"القلب المسكين "٤"القلب المسكين "٥* "القلب المسكين

    "٦"القلب المسكين "٧"القلب المسكين "٨"القلب المسكين "تتمة"القلب المسكين *انتصار الحب

  • 3

    *قنبلة بالبارود ال بالماء المقطر *شيطان وشيطانة

    ١نهضة األقطار العربية ولكن على فنيته١ال تجني الصحافة على األدب

    "١"صعاليك الصحافة "٢"صعاليك الصحافة "٣"صعاليك الصحافة "تتمة* "صعاليك الصحافة

    ١أبو حنيفة ولكن بغير فقه ١األدب واألديب

    ١سر النبوغ في األدب ١نقد الشعر وفلسفته ١فيلسوف وفالسفة

    ١...شيطاني وشيطان طاغور *؟...فلسفة القصة ولماذا ال أكتب فيها

    *شعر صبري ١حافظ إبراهيم

    * عن حافظ١كلمات ١شوقي

    *بعد شوقي ١ين سنةالشعر العربي في خمس

    *صروف اللغوي ١الشيخ الخضري

    في كتب األدب القديمة١رأي جديد

  • 4

    ١أمير الشعر في العصر القديم ١البؤساء

    ١المالح التائه ١"المتنبي"و" المقتطف"

    *محمد *ديوان األعشاب

    ١النجاح وكتاب سر النجاح تحقيق مدة إقامته بمصر: أبو تمام الشاعر

    ١القديم والجديد المرأة والميراث

    ليست مترجمة" القتل أنفى للقتل" ليست جاهلية" القتل أنفى للقتل"

  • 5

    *١السمو الروحي ا.عظم والجمال الفني في الب+غة النبوية

    لما أردت أن أكتب هذا الفصل وهممت به، عرضت لي مسألة نظرت فيها أطلب يحسن العربية ًجوابها، ثم قدرت أن يكون أبلغ فالسفة البيان في أوربا لعهدنا هذا رجال

    َالمبينة، وقد بلغ فيها مبلغ أئمتها علما وذوقا، ودرس تاريخ النبي صلى اهللا عليه وسلم ً ًْدرس الروح ألعمال الروح، وتفقه في شريعته فقه الحكمة ألسرار الحكمة، واستوعب ْأحاديثه واعتبرها بفن النقد البياني الذي يبحث في خصائص الكالم عن خصائص

    ما هو الجمال الفني عندك في بالغة : ت أني لقيت هذا الرجل فسألتهالنفس؛ وتمثلمحمد صلى اهللا عليه وسلم؟ وماذا تستخرج لك فلسفة البيان منه؟ وما سره الذي يجتمع

    فيه؟ولم يكد يخطر لي ذلك حتى انكشف الخاطر عن وجه آخر، وذلك أن يكون معنى هذا

    ألبلغ أولئك العرب الذين رأوا النبي السؤال بعينه قد وقع في شيء من حديث النفسصلى اهللا عليه وسلم، وآمنوا به، واتبعوا النور الذي أنزل معه، وقد صحبه فطالت صحبته، ال يفوته من كالمه في المأل شيء، وخالطه حتى كان له في اإلحاطة بأحوال

    ليه نفسه كبعض التاريخ، فتدبر ما عسى أن يكون سر الجمال في بالغته صلى اهللا ع وسلم، وما مرجعه الذي يرد إليه؟

    لو دار السؤال دورتيه في هذه السليقة العربية المحكمة التي رجعت أن تكون فلسفة تشعر وتحس، وفي تلك الفلسفة البيانية الملهمة التي بلغت أن تكون سليقة تدرس وتفكر

    وهو أن ذلك : لما خلص من كلتيهما إال برأي واحد تلتقي عليه حقيقة البيان من طرفيهاٌالجمال الفني في بالغته صلى اهللا عليه وسلم إنما هو أثر على الكالم من روحه النبوية

    .الجديدة على الدنيا وتاريخها---------------

    ً أنشأ المؤلف رحمه اهللا هذا البحث جوابا لرجاء جمعية الهداية اإلسالمية في بغداد ١ .١٧٨، ١٧٦-١٧٥ص" عيحياة الراف"هـ؛ وانظر كتابنا ١٣٥٢سنة

  • 6

    عن بالغة النبي صلى اهللا عليه وسلم من " إعجاز القرآن" بسطنا الكالم في كتابنا ٢ .وجوه كثيرة، وبقي هذا المعنى الذي تراه، فهذه المقالة كالتكملة على ما هناك

    ًوبعد، فأنا في هذه الصفحات ال أصنع شيئا غير تفصيل هذا الجواب وشرحه، باستخراج استنباط أدلته، والكشف عن أسراره وحقائقه؛ ولقد درست كالمه صلى اهللا عليه معانيه، و

    ًوسلم، وقضيت في ذلك أياما أتتبع السر الذي وقع في التاريخ القفر المجدب فأخصب ًبه وأنبت للدنيا أزهاره اإلنسانية الجميلة، فكانوا ناسا إن عبتهم بشيء لم تعبهم إال أنهم

    واحدة حول : ًاسا، دارت الكرة األرضية في عدهم ثالث دوراتدون المالئكة؛ وكانوا ن .الشمس، وثانية حول نفسها، وثالثة حول أصحاب النبي صلى اهللا عليه وسلم

    ثم تركت الكالم النبوي يتكلم في نفسي ويلهمني ما أفصح به عنه، فلكأني به يقول في ل من هنا وهناك، وأذهب إني أصنع أمة لها تاريخ األرض من بعد، فأنا أقب: صفة نفسه

    .هناك وهنا، مع القلوب واألنفس والحقائق، ال مع الكالم والناس والوقتإن ههنا دنيا الصحراء ستلد الدنيا المتحضرة التي من ذريتها أوربا وأمريكا؛ فالقرآن

    .والحديث يعمالن في حياة أهل األرض بنور متمم لما يعمله نور الشمس والقمر يغزون الدنيا بأسلحة هي في ظاهرها أسلحة المقاتلين، ولكنها في وقد كان المسلمون

    معانيها أسلحة األطباء؛ وكانوا يحملون الكتاب والسنة، ثم مضوا إلى سبيلهم وبقي الكالم ًمن بعدهم غازيا محاربا في العالم كله حرب تغيير وتحويل إلى أن يدخل اإلسالم على ً

    *.ما دخل عليه الليلًديث في نفسي، وقد كنت أقرؤه وأنا أتمثله مرسال بتلك الفصاحة العالية هذا منطلق الح

    من فم النبي صلى اهللا عليه وسلم حيث يمر إعجاز الوحي أول ما يخرج به الصوت ًالبشري إلى العالم، فال أرى ثم إال أن شيئا إلهيا عظيما متصال بروح الكون كله اتصال ً ً ً

    إنساني هو هذا الحديث الذي يجيء في كلمات بعض السر ببعض السر، يتكلم بكالم .قوية رائعة، فنها في بالغتها كالشباب الدائم

    ---------------

  • 7

    وكأن العبارة نص ". ليدخلن هذا الدين على ما دخل عليه الليل: " في الحديث الشريف١، إذا طمست اإلنسانية بلذاتها... على أن اإلسالم يعم حين تظلم الدنيا ظالمها الشعري

    وأظلمت آفاقها الروحانية؛ فيجيء اإلسالم في قوة أخالقه كشباب الفجر، يبعث حياة ًالنور اإلنساني بعثا جديدا؛ وهذا هو رأينا في مستقبل اإلسالم ال بد من انحالل أوربا : ً

    .وأمريكا، كما يصفر النهار، ثم يختلط، ثم يظلم، ثم تطلب الطبيعة نورها الحي من بعدا من البيان، فأراه ينقلني إلى مثل الحالة التي أتأمل فيها روضة تتنفس ًكنت أتأمله قطع

    َعلى القلب، أو منظرا يهز جماله النفس، أو عاطفة تزيد بها الحياة في الدم، على هدوء ُ ًٕوروح واحساس ولذة؛ ثم يزيد على ذلك أنه يصلح من الجهات اإلنسانية في نفسي، ثم

    أنا في ذوق البيان كأنما أرى المتكلم صلى اهللا عليه وسلم يرزق اهللا منه رزق النور فإذا .وراء كالمه

    ًوأعجب من ذلك أني كثيرا ما أقف عند الحديث الدقيق أتعرف أسراره، فإذا هو يشرح لي أفهمت؟: ويهديني بهديه؛ ثم أحسه كأنما يقول لي ما يقول المعلم لتلميذه

    ا ركبوا في سفينة، فاقتسموا، فصار لكل ًإن قوم: "وقفت عند قوله صلى اهللا عليه وسلمهو مكاني : ما تصنع؟ قال: رجل منهم موضع، فنقر رجل منهم موضعه بفأس، فقالوا له

    "*.ٕفإن أخذوا على يده نجا ونجوا، وان تركوه هلك وهلكوا! أصنع فيه ما شئت فكان لهذا الحديث في نفسي كالم طويل عن هؤالء الذين يخوضون معنا البحر ويسمون

    كحرية الفكر، والغيرة، واإلصالح؛ : ًأنفسهم بالمجددين، وينتحلون ضروبا من األوصافًزاعما ... وال يزال أحدهم ينقر موضعه من سفينة ديننا وأخالقنا وآدابنا بفأسه، أي بقلمه

    ًأنه موضعه من الحياة االجتماعية يصنع فيه ما يشاء، ويتواله كيف أراد، موجها لحماقته ًلمعاذير والحجج، من المدنية والفلسفة، جاهال أن القانون في السفينة إنما ًوجوها من ا

    هو قانون العاقبة دون غيرها، فالحكم ال يكون على العمل بعد وقوعه كما يحكم على األعمال األخرى؛ بل قبل وقوعه؛ والعقاب ال يكون على الجرم يقترفه المجرم كما يعاقب

    الشروع فيه، بل على توجه النية إليه، فال حرية هنا في اللص والقاتل وغيرهما، بل على عمل يفسد خشب السفينة أو يمسه من قرب أو بعد ما دامت ملججة في بحرها، سائرة

  • 8

    أصغر "ال تحمل في السفينة معناها األرضي، وهنا لفظة " الخرق"إلى غايتها؛ إذ كلمة "..أوسع قبر"ليس لها إال معنى واحد وهو " خرق

    --------------- مثل : " روى البخاري هذا الحديث على وجه آخر، وفيه زيادة من الجمال الفني؛ قال١

    القائم على حدود اهللا والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعالها : وبعضهم أسفلها؛ فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا

    ٕفإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وان ! ًا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنالو أنا خرقن ً ".ًأخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا

    عاطفة شريفة ": األعلى"تعمل لرحمة من هم في " األسفل"فهذا تمثيل لحالة طائفة في ولن تجد كهذا ولكنها سافلة، وحمية ملتهبة ولكنها باردة، ورحمة خالصة ولكنها مهلكة؛

    التمثيل في تصوير البالغة االجتماعية والغفلة الفلسفية ألناس هم عند أنفسهم أمثلة الجد والعمل والحكمة، فكأن النبي صلى اهللا عليه وسلم يقول لهؤالء من ألف وثالثمائة

    ًأنتم المصلحون إصالحا مخروقا: سنة ً!... ته وانطالقه، فهو ههنا محدود على رغم ففكر في أعظم فالسفة الدنيا مهما يكن من حري

    أنفه بحدود من الخشب والحديد تفسرها في لغة البحر حدود الحياة والمصلحة وكما أن يكون " الفلسفة"يكون من معانيها في البحر القبر والغرق والهالك، فكلمة " الخرق"لفظة

    رية يكون من من بعض معانيها في االجتماع الحماقة والغفلة والبالهة، وكلمة الح، وعلى هذا القياس اللغوي فالقلم في أيدي بعض الكتاب ١معانيها الجناية والزيغ والفساد

    من معانيه الفأس، والكاتب من معانيه المخرب، والكتابة من معانيها الخيانة؛ قال لي أفهمت؟: الحديث

    ًا زدته فكرا هكذا يجب تأمل الجمال الفني في كالمه صلى اهللا عليه وسلم، فهو كالم كلمزادك معنى، وتفسيره قريب، قريب كالروح في جسمها البشري، ولكنه بعيد بعيد كالروح ٕفي سرها اإللهي، فهو معك على قدر ما أنت معه، إن وقفت على حد وقف، وان مددت مد، وما أديت به تأدى، وليس فيه شيء مما تراه لكل بلغاء الدنيا من صناعة عبث

  • 9

    الكالم، واستخراج وضع من وضع، والقيام على الكلمة حتى القول، وطريقة تأليفوالرغبة في تكثير سواد المعاني، وترك اللسان يطيش طيشه ... تبيض كلمة أخرى

    اللغوي يتعلق بكل ما عرض له، ويحذر الكالم على معاني ألفاظه، ويجتلب له منها حيث كان ولم ويستكرهها على أغراضه، ويطلب لصناعته من حيث أدرك وعجز، ومن

    يكن؛ إنما هو كالم قيل؛ لتصير به المعاني إلى حقائقها، فهو من لسان وراءه قلب، وراءه نور، وراءه اهللا جل جالله؛ وهو كالم في مجموعة كأنه دنيا أصدرها صلى اهللا عليه وسلم عن نفسه العظيمة، ال تبرح ماضية في طريقها السوي على دين الفطرة؛ فال

    يقع بها التنافر؛ والخالف والتنافر إنما يكونان من الحيوانية المختلفة تتسع لخالف، والبطبيعتها؛ لقيامها على قانون التنازع تعدو به وتجترم وتأثم، فهي نازلة إلى الشر، والشر ًبعضه أسفل من بعض؛ أما روحانية الفطرة فمتسقة بطبيعتها، ال تقبل في ذاتها افتراقا

    ولها العلو فوق الذاتية، وقانونها التعاون على البر والتقوى؛ فهي ًوال اختالفا؛ إذ كان أ .صاعدة إلى الخير، والخير بعضه أعلى من بعض

    --------------- الزائغون في التاريخ اإلسالمي كله صنفان ليس لهما ثالث، وقد وصفهما الحديث ١

    ألون رسول اهللا صلى كان الناس يس: الذي رواه البخاري بسنده إلى حذيفة بن اليمان قاليا رسول : اهللا عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت

    : إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا اهللا بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: اهللا: وما دخنه؟ قال: قلت". نعم وفيه دخن: "وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: قلت". نعم": فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: قلت". قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر". يا رسول اهللا، صفهم لي: قلت" نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها"

    يا رسول اهللا، فما تأمرني إن أدركني : قلت". هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا: "قال: فإن لم تكن لهم جماعة وال إمام؟ قال: قلت". ٕة المسملين وامامهمتلزم جماع: "ذلك؟ قال

    فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على " .انتهى الحديث". ذلك

  • 10

    ؛ فهؤالء هم الذين يريدون اإلصالح "يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر: "فتأمل قولهم بل من طرق أخرى فيها معروفها ومنكرها، وفيه علمها للمسلمين ال من طريق اإلسال

    المدينة األوروبية بحسناتها : ولعل من هذا قولهم. وجهلها، وفيها عقلها وحماقتهافليست الدعوة إلى باب واحد بل إلى أبواب " إلى أبواب جهنم: "وتأمل قوله... وسيئاتها

    ...مختلفة لعل آخر ما فتحوا منها باب األدب المكشوففإن معناه استمساك " ولو أن تعض بأصل شجرة: "ثم تأمل قوله صلى اهللا عليه وسلم

    بما بقي على الطبيعة السليمة مما ال يستطيع أولئك أن يغيروه وال أن يجددوه، أي باالستمساك ولو بأصل واحد من قديم الفضيلة واإليمان، وعبارة العض شجرة تمثل أبدع

    ضائل في هذا الزمن، ومبلغ ما يعانيه في التمسك وأبلغ وصف لمن يلزم أصول الف .بفضيلته، وهي وحدها فن كأجمل ما يبدعه مصور عبقري

    كله دين وتقوى وتعليم، وكله روحانية وقوة : فكالمه صلى اهللا عليه وسلم مجرى عملهٕوحياة؛ وانه يخيل إلي وقد أخذت بطهره وجماله أن من الفن العجيب أن يكون هذا

    .ًوصياما في األلفاظالكالم صالة أما أسلوبه صلى اهللا عليه وسلم فأجد له في نفسي روح الشريعة ونظامها وعزيمتها، ًفليس له إال قوة قوة أمر نافذ ال يختلف، وان له مع ذلك نسقا هادئا هدوء اليقين، مبينا ً ً ٕ

    ًبيان الحكمة، خالصا خلوص السر، واقعا من النفس المؤمنة موقع النعمة من شاكر ها؛ ًوكيف ال يكون كذلك وهو أمر الروح العظيمة الموجهة بكلمات ربها ووحيه؛ ليتوجه بها

    دورته بنفسه هي دورته بنفسه وبما حوله، روح نبي : العالم كأنه منه مكان المحورمصلح رحيم، هو بإصالحه ورحمته في اإلنسانية، وهو بالنبوة فوقها، وهو بهذه وتلك في

    إنه كمجموع القارات : إنساني عظيم لو شبه بشيء لقيل فيهشمائله وطباعه مجموع .الخمس لعمران الدنيا

    ومن درس تاريخه صلى اهللا عليه وسلم وأعطاه حقه من النظر والفكر والتحقيق، رأى ًنسقا من التاريخ العجيب كنظام فلك من األفالك موجه بالنور في النور من حيث يبدأ

    ل مميز أن هذه الحياة الشريفة، بذلك النظام الدقيق، إلى حيث ينتهي، فليس يمتري عاق

  • 11

    ال يطيقها بشر من لحم ودم على ناموس الحياة إال إذا كان في -في ذلك التوجه المحكم .لحمه ودمه معنى النور والكهرباء على ناموس أقوى من الحياة

    انها على ولم يكن مثله صلى اهللا عليه وسلم في الصبر والثبات واستقرار النفس واطمئنزالل الدنيا، وال في الرحمة ورقة القلب والسمو فوق معاني البقاء األرضي؛ فهو قد خلق

    تدفنهم : كذلك؛ ليغلب الحوادث ويتسلط على المادة؛ فال يكون شأنه شأن غيره من الناسّمعاني التراب وهم أحياء فوق التراب، أو يحدهم الجسم اإلنساني من جميع جهاتهم

    ونزعاته؛ وبذلك فقد كان عليه الصالة والسالم منبع تاريخ في اإلنسانية بحدود طباعه .ًكلها دائما، ولرأس الدنيا نظام أفكاره الصحيحة

    سمعت رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم : قال-رضي اهللا عنهما- عن عبد اهللا بن عمر ، فانحدرت انطلق ثالثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه: "يقول

    إنه ال ينجيكم من هذه الصخرة إال أن : صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوااللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت : فقال رجل منهم! تدعوا اهللا بصالح أعمالكم

    ً ماال فنأى بي في طلب شيء يوما فلم أرح عليهما حتى ناما، ١ًال أغبق قبلهما أهال وال ًً غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهال أو ماال، فحلبت فحلبت لهما ً

    ًلهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهال أو ماال، فلبثت والقدح ًعلى يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت

    ًفانفرجت شيئا ال ! ما نحن فيه من هذه الصخرةفعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ".يستطيعون الخروج

    اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب : وقال اآلخر: "قال النبي صلى اهللا عليه وسلم من السنين فجاءتني ٢الناس إلي، فأدرتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة

    ففعلت، حتى إذا قدرت ! بين نفسهافأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وفترحجت من الوقوع عليها، ! ال أحل لك أن تفض الخاتم إال بحقه: عليها قالت

    فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت

  • 12

    فانفرجت الصخرة غير أنهم ال ! فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه ".ج منهايستطيعون الخرو

    --------------- .ً أي ال يسقي الغبوق أحدا أو جماعته قبلهما١ .جدب وقفر: سنة٢

    اللهم إني استأجرت فأعطيتهم أجرهم غير : وقال الثالث: "قال النبي صلى اهللا عليه وسلمرجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه األموال، فجاءني بعد حين

    هللا، أد إلي أجرييا عبد ا: فقال .كل ما ترى من أجرك، من اإلبل والبقر والغنم : فقلت لهفأخذه كله فاستاقه ! إني ال أستهزئ بك: فقلت! يا عبد اهللا ال تستهزئ بي: فقال! والرقيق

    فانفرجت ! اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه. ًفلم يترك شيئا .انتهى الحديث". الصخرة فخرجوا يمشون

    وأنا فلست أدري، أهذا هو النبي صلى اهللا عليه وسلم يتكلم في اإلنسانية وحقوقها بكالم بين صريح فال فلسفة فيه، يجعل ما بين اإلنسان واإلنسان من النية هو ما بين اإلنسان وربه من الدين؛ أم هي اإلنسانية تنطق على لسانه بهذا البيان العالي، في شعر من

    شعرها ضاربة فيه األمثال، مشيرة فيه إلى الرموز، واضعة إنسانها بين شدة الطبيعة ورحمة اهللا، محكمة عناصر روايتها الشعرية، محققة في بيانها المكشوف أغمض معانيها في فلسفة الحاسة اإلنسانية حين تتصل بأشيائها فتظهر الضرورة البشرية

    صل بهذه األشياء ذاتها فتظهر الحكمة وتختفي وتختفي الحكمة، وفلسفة الروح حين تتمبينة أثر هذه وتلك في طبيعة الكون، مقررة أن الحقيقة اإلنسانية العالية لن -الضوررة

    تكون فيما ينال اإلنسان من لذته، وال فيما ينجح من أغراضه، وال فيما يقنعه من منطقه، بل هي السمو على هذه الحقائق وال فيما يلوح من خياله، وال فيما ينتظم من قوانينه؛

    ًالكاذبة كلها، وهي الرحمة التي تغلب على األثرة فيسميها الناس برا، والرحمة التي تغلب على الشهوة فيسميها الناس عفة، والرحمة التي تغلب على الطمع فيسميها الناس أمانة؛

  • 13

    خمول، حاسة الدعة التي يقوم بها حظ ال: وهي في ضبط الروح لثالث من الحواس .وحاسة اللذة التي يقوم بها حظ الهوى، وحاسة التملك التي يقوم بها حظ القوة

    وتزيد اإلنسانية على ذلك في نسق شعرها أنها تثبت أن البر من العفة واألمانة هو على ًإطالقه كاألساس لهما؛ فمن نشأ على بر أبويه كان خليقا أن يتحقق بالعفة واألمانة، وأن

    نة والبر هي مساكهما وجامعتهما في النفس، وأن األمانة من البر والعفة العفة من األماهي كمال هذه الفضائل، وكلهن درجات لحقيقة واحدة، غير أن بعضها أسمى من بعض ًفي الشأن والمنزلة، وبعضها طريق لبعض يجر سبب منها سببا منها، وأن الرحمة

    ًي هذا الحب، بادئا من الولد ألبويه، اإلنسانية التي هي وحدها الحقيقة الكبرى إنما هوهو الحب الخاص؛ ثم من المحب لحبيبته، وهو الحب األخص، ثم من اإلنسان ًلإلنسانية، وهو الحب مطلقا بعمومه وبغير أسبابه الملجئة من الحاجة والغريزة؛ وهي

    لى درجات كدرجات الحياة نفسها من طفوتها إلى شبابها إلى الشيخوخة، ومن العاطفة إ .الرغبة إلى العقل

    ثم إنه ما دام كمال الفضيلة هو األمانة، فما قبلها أنواع منها؛ فبر الولد أمانة الطبع المتأدب، وعفة المحب أمانة القلب الكريم، والثالثة أمانة الخلق العالي، وهي أسماهن؛

    ًألنها لن تكون خلقا ثابتا إال وقد خضع لقانونها الطبع والقلب، ودخل في أ سبابها األدب ًوالكرم؛ فاألمانة الكاملة في هذه الفلسفة هي األمانة لإلنسانية العامة المتصلة والكرم؛ فاألمانة الكاملة في هذه الفلسفة هي األمانة لإلنسانية العامة المتصلة بالمرء من أبعد جهاته، دون اإلنسانية الخاصة بكل شخص من أب، أو أم، أو قريب؛ ودون التي هي

    .وهي إنسانية الحبأخص ونرى في لفظ الحديث أن كل رجل من هؤالء الذين مثلوا رواية اإلنسانية الفاضلة في

    ِإال ابتغاء وجه الله{: فصولها الثالثة، ال يقول إنه فعل ما فعل من صالح أعماله ِ ِْ َْ َ َ ِ {ة ً، وقد تطابقوا جميعا على هذه الكلمة، وهي من أدق ما في فلسف]٢٧٢: البقرة[

    ًاإلنسانية في شعرها ذلك، فإن معناها أن الرجل في صالح عمله إنما كان مجاهدا نفسه، ًيمنعها ما تحرص عليه من حظها أو لذتها أو منفعتها، أي منخلعا من طبيعته األرضية

  • 14

    ًالمنازعة لسواها، المنفردة بذاتها، متحققا بالطبيعة السماوية التي ال يرحم اهللا عبدا إال ًٕ رحمة اإلنسان غيره، أي اندماجه باستطاعته وقوته، واعطاؤه من ذات نفسه بها، وهي

    .ومعاونته كف أذاهوالحديث كالنص على أن هذه الرحمة في النفس هي الدين عند اهللا، ال يصلح دين ٕبغيرها، وال يقبل اهللا صرفا وال عدال من نفس تخلو منها؛ واذا كانت بهذه المنزلة، وكانت ً ً

    على اإلنسان من الخير والحق، فهي من ذلك في معنى الحديث أساس أساس ما يفرضما يصلح هذه اإلنسانية من الشر والباطل؛ وبهذا كله تكون الغاية الفلسفية التي ينتهي إليها كالمه صلى اهللا عليه وسلم، أن تنشئة الناس على البر والعفة واألمانة لإلنسانية

    . لحل معضلة الشر والجريمة في االجتماع البشريهي وحدها الطريقة العملية الممكنة وانظر كيف جعل نهاية السمو في رحمة المال الذي يصفونه بأنه شقيق الروح، فكأن اإلنسان ال يخرج فيها لغيره من بعض ماله، بل ينخلع من بعض روحه؛ وهذا يقرر لك

    ن الزائفة هي في فلسفة أخرى أن السعادة اإلنسانية الصحيحة في العطاء دون األخذ، وأاألخذ دون العطاء؛ وذلك آخر ما انتهت إليه فلسفة األخالق؛ فما المرء إال ثمرة تنضج بموادها، حتى إذا نضجت واحلولت كان مظهر كمالها ومنفعتها في الوجود أن تهب حالوتها فإذا هي أمسكت الحالوة على نفسها لم يكن إال هذه الحالوة بعينها سبب في

    أفهمت؟. ها من بعدعفنها وفسادوما دمنا قد وصفنا رحمة المال، فإنا نتم الكالم فيها بهذا الحديث العجيب في فن تمثيله

    أنه سمع رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم -رضي اهللا عنه-عن أبي هريرة : وبالغة فنهمثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد، من ثديهما إلى : "يقولهما؛ فأما المنفق فال ينفق إال سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه وتعفو تراقي

    ًأثره، وأما البخيل فال يريد أن ينفق شيئا إال لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسعها فال .انتهى". تتسع

    فأنت ترى ظاهر الحديث، ولكن فنه العجيب في هذا الحديد الذي يراد به طبيعة الخير ًاإلنسان، فهي من أشد الطبائع جمودا وصالبة واستعصاء متى اعترضتها والرحمة في

  • 15

    حظوظ النفس الحريصة وأهواءها، ومع ذلك فإن السخاء بالمال يبسط منها وينتهي في الطبع إلى أن يجعلها لينة، فال تزال تمتد وتسبغ حتى يكون واإلنفاق راضها رياضة

    القوة في الصراع ونحوه؛ أما الشيخ فال عملية كرياضة العضل بأثقال الحديد ومعاناة .يناقض تلك الطبيعة ولكنه يدعها جامدة مستعصية ال تلين وال تستجيب وال تتيسر

    وقد جعل الجبة من الثدي إلى التراقي، وهذا من أبدع ما في الحديث؛ ألن كل إنسان من هذه فهو منفق على ضروراته، يستوي في ذلك الكريم والبخيل، فهما على قدر سواء

    ٕالناحية؛ وانما التفاوت فيما زاد وسبغ من وراء هذا الحد، فههنا يبسط الكريم بسطه ؛ ألنه إنسان، واإلرادة علم عقلي ال أكثر، فإذا هو حاول "يريد"اإلنساني، أما البخيل فهو

    تحقيق هذه اإلرادة وقع من طبيعة نفسه الكزة فيما يعانيه من يوسع جبة من الحديد لزقت .قة من حلقاتها في مكانها، فهي، مستعصية متماسكة، فهو يوسعها فال تتسعكل حل

    أال ترى كيف تتوجه الحجة، وكيف تدق الفلسفة وهي في أظهر البيان وأوضحه؟ وهل بالغة من وصف نفسها هذا -تحسب طبيعة البخيل في دقائقها النفسية لو هي نطقت

    نقل إلى كل لغات األرض لزانها ٕالمبلغ من جمال الفن وابداعه؟ وهو بعد وصف لوال يختلف تركيبه فلن يكون بثالثة أعين، ال : ًجميعا، ولكان في جميعها كاإلنسان نفسه

    .في بالد شكسبير وال في بالد الزنوجإن كالم نبينا صلى اهللا عليه وسلم يجب أن يترجم بفلسفة عصرنا وآدابه، فستراه حينئذ

    حياتها : ، وستراه في شرحه الفلسفي كاألزهار الناضرةكأنما قيل مرة أخرى من فم النبوةبشاشتها في النور؛ وتعرفه إنسانية قائمة تصحح بها أغالط الزمن في أهله، وأغالط الناس في زمنهم؛ وتجده يرف على البشرية المسكينة بحنان كحنان األم على أطفالها،

    وما األم بطبيعتها إال ..والناس اآلن كاألطفال غابت أمهم، فهم في تنافر صبيانيالميزان الستبدادهم، والحكمة لطيشهم، واالئتالف لتنافرهم، والنظام لعبثهم؛ وبالجملة

    .فحنان قلبها الكبير هو القانون لكل قضايا هذه القلوب الصغيرةوقد كتبنا في فلسفة األدب وحقيقته، ومعانيه اإلنسانية، وأن األديب التام األداة هو

    ني، وغيره هو اإلنسان فقط، وأن علم األديب هو النفس اإلنسانية بأسرارها اإلنسان الكو

  • 16

    المتجهة إلى الطبيعة، والطبيعة بأسرارها المتجهة إلى النفس؛ ولذلك فموضعه من الحياة وأن األديب مكلف بتصحيح النفس -موضع فكرة حدودها من كل نواحيها األسرار

    مما يلتبس بها على تتابع الضرورات، ثم ٕاإلنسانية ونفي التزوير عنها، واخالصهاتصحيح الفكرة اإلنسانية في الوجود، ونفي الوثنية عن هذه الفكرة، والسمو بها إلى فوق،

    .١ًثم إلى فوق، ودائما إلى فوقفإذا تدبرت هذا المقال، واعتبرت كالم النبي صلى اهللا عليه وسلم على ما بينا وشرحنا،

    الذي نعيش فيه، ونظرت إلى ألفاظه ومعانيه، واستبرأت وأخذته من عصره ومن العصر ما بينها من خواص الفن بمثل ما نبهناك إليه من التأويل الذي مر بك، وعلمت أن كل

    إذا جمعت -حقيقة فنية ال تكون كذلك إال بخاصة فيها، وأن سر جمالها في خاصتها م كما هو أعظم نبي وأعظم ًذلك لم تر مذهبا عن اإلقرار بأن النبي صلى اهللا عليه وسل

    مصلح، فهو أعظم أديب؛ ألن فنه األدبي أعظم فن يحقق لإلنسانية حياة أخالقها، وهو .صلى اهللا عليه وسلم. بكل ذلك أعظم إنسان

    فالفن في هذه البالغة هو في دقائقه أثر تلك الروح العليا بكل خصائصها العظيمة التي األرض، ولذا ترى كالمه صلى اهللا عليه وسلم يحتاج إليها الوجود الروحاني على هذه

    يخرج من حدود الزمان، فكل عصر واجد فيه ما يقال له، وهو بذلك نبوة ال تنقضي، ًوهو حي بالحياة ذاتها، وكأنما هو لون على وجه منها كما ترى البياض مثال هو اللون

    ...على وجه طائفة من الجنس البشري---------------

    ً، وأكثر ما فيه يعد متمما لفلسفة ١٩٣٢مقال في مقتطف شهر يوليو سنة نشر هذا ال١هذا الفصل؛ وسنجمع كل مقاالتنا في كتاب يصدر إن شاء اهللا في آخر صيف هذا

    العام؟ "وقد استغني عنه بهذا الكتاب " قول معروف"وأحسبه كان يعني كتابه : قلت

    ه، وفي الدنيا التي ألفها من التاريخ فإذا نظرت في هذا الفن فانظره في حديثه، وفي عملتأليف القطعة البليغة النادرة من الكالم، ورد كل ما تدبرته من ذلك إلى تلك الروح

  • 17

    الجديدة على تاريخ األرض؛ فلتعلمن حينئذ أن كل بليغ هو شمعة مضيئة صنعت لها ًمادة النور نورا وجماال بجانب هذه الشمس التي خلقت فيها مادة النور نو ًرا وجماال وحياة ً ً

    وقوة؛ هناك نور لذي عينين، وهنا النور لكل ذي عينين، وذاك يتخايل كالحلم، وهذا يفصح كالحقيقة، وذلك ضوء من حوله الظلمة دانية، وهذا قد طرد الظلمة عن نصف

    .الدنيا إلى نصف الدنيا؛ واألول نور بال روح، والثاني هو روح النورلتي كان يفهمه بها أصحابه صلى اهللا عليه وسلم، كما يفهم تلك في رأينا هي الطريقة ا

    الشاعر نور القمر في ليلة صيف بمعان من الزمان والمكان، ومن النفس والحالة، ومن الهيئة والشكل، ومن العين والفكر، ومن السماء واألرض، ففيه النور وزيادة، أي الحقيقة

    ًا معه كأعظم فالسفة الفن مع الفن إعجابا وما ترتفع بها على نفسها؛ وبهذه الطريقة كانوًوحبا وانقيادا وطاعة حتى انخلعوا من عصرهم ودنياهم، وخرجوا من أحوالهم وطبائعهم، ًوانجذبوا إليه أشد انجذاب عرفه التاريخ، وأصبحوا مصرفين معه تصريف الحوادث ال

    ر السماء فيغسل تصريف األشخاص، وعادت أنفسهم وكأن تأثير األرض يلتقي فيها بتأثيفي سحب عالية فال يكون فيها كما يريده الناس، بل كما يريد اهللا؛ ورجعت قلوبهم ال ًتلبس على دينها رأيا وال هوى، وكأنما وضع لها هذا الدين حرسا على كل سمع وعلى ًكل بصر؛ وبالجملة فأولئك قوم كأنما تناولهم النبي صلى اهللا عليه وسلم فأفرغهم ثم

    ما انتقلوا إلى منزلهم العالية في التاريخ إال بعد أن نقلهم هو إلى منزلة من مألهم، و .منازل نفسه الشريفة

    وناهيك من رجال يمثل لهم بهذا المثل الذي يضربه لهم في اإليمان ليبلغوه أو يقاربوه، شكونا إلى رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم : قال-رضي اهللا عنه-فعن خباب بن األرت

    كان : "أال تستنصر لنا؟ أال تدعو اهللا لنا؟ قال: متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلناوهو الرجل فيمن قبلكم يحفر له في األرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم

    !"أو عصب وما يصده ذلك عن دينه

  • 18

    ًفانظر يا هذا، فإنه لو اجتمعت قوى الكون فجاءت يشد بعضها بعضا فنزلت في عبارة من الكالم لتمأل نفوس المؤمنين بقوتها لما وضعت إال هذا الوضع من هذا التمثيل

    وظاهر التمثيل على . بأمشاط المسامير وأسنان المنشار في عظم اإلنسان الحي ولحمهًنا أعجب من ظاهره، وهو البالغة كل البالغة والبيان ما رأيت من العجب، ولكن له باط

    حق البيان، فإنما يريد صلى اهللا عليه وسلم أن الحديد ال يأكل وال يمزع من أولئك ًاألقوياء بإيمانهم عظما ولحما وعصبا، بل هو حديد يأكل حديدا مثله أو أشد منه، فإن ً ً ً

    معجزة، فيمر الحديد في العظم للروح المؤمنة السلطة على جسمها قوة تصنع هذه ال !واللحم والعصب يسلبها الحياة، ولكنها تسلبه شدته وجلده وصبره

    وكل ما جاء من التمثيل في كالمه صلى اهللا عليه وسلم ينطوي فيه من إبداع الفن ٕالبياني واعجازه ما يفوت حدود البلغاء، حتى ال تشك إذا أنت تدبرته بحقه من النظر

    هي البالغة ولكنها أبدع مما : إنما هي شيء كبالغة الحياة في الحيوالعلم أن بالغته .ًهي؛ ألنها الحياة أيضا

    وأنت خبير أن هذا النبي الكريم صلى اهللا عليه وسلم كانت تأخذه عند نزول الوحي عليه ولقد رأيته ينزل عليه : -رضي اهللا عنها-قالت عائشة : أحوال وصفت في كتب الحديث

    ً الشديد البرد فيفصم عنه وان جبينه ليتفصد عرقاالوحي في اليوم وفي حديث آخر عنها . ٕفأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى أنه ليتحدر عنه مثل الجمان من العرق في : قالت

    على رسوله صلى اهللا عليه -عز وجل-فأنزل اهللا : وفي حديث زيد بن ثابت. ٍيوم شاتوفي حديث يعلى . خفت أن ترض فخذيوسلم، وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى

    أرني النبي صلى اهللا عليه وسلم حين يوحي إليه، فأشار عمر : بن أمية حين قال لعمرإلي، فجئت وعلى رأس رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم ثوب قد أظل به فأدخلت رأسي،

    شدة ثقل ّفإذا رسول اهللا صلى اهللا عليه وسلم محمر الوجه وهو يغط، أي يردد نفسه من فهذه كلها أحوال تصف عمل الدماغ بكل ما فيه من جهد القوى العصبية؛ . الوحي

    ليرتفع بالحياة إلى ما فوقها ويتركها لوعي الروح وحدها، ال يشاركها في هذا الوعي فكر وال هاجس، وال يتصل به شيء من حياة الحي، فيتحقق للنبي صلى اهللا عليه وسلم

  • 19

    دود بجسمه وطباعه ودنياه؛ ويخرج بوعيه من هذه الجاذبية وجود آخر غير وجوده المحاألرضية إلى ما وراء حدود الطبيعة من قوى الغيب؛ وبذلك يتلقى عن روح الكون، ثم

    ّوما وصفه زيد بن ثابت من أن فخذه كادت ترض . يفصم عنه وقد وعى ما أوحي إليهه ساعة الوحي فيثقل برهان قاطع على أن روحه صلى اهللا عليه وسلم تنسرح من جسم

    الجسم؛ ألنه إنما يخف بالروح وتبقى وظائف الحياة عاملة أعمالها بعسر وبطء؛ التصالها بشعاع من الروح دون الروح بجملتها؛ ولسنا هنا بصدد الكالم عن الوحي، فله

    ، وانما نريد أن ندل على أن هذه التهيئة ١"أسرار اإلعجاز"موضع إن شاء اهللا في كتابنا ٕلهية لذلك الجهاز العصبي لها أثرها العظيم في فن بالغته صلى اهللا عليه وسلم، وبها اإل

    امتاز عن كل بلغاء الدنيا؛ فإن الملهم من أفذاذ العبقريين على هذه األرض إنما يبلغ ما يبلغه ببعض هذا الذي رأيت، وفي بعض هذا أبدع ما ورثت الدنيا من فنون البيان،

    ٕ في موضع منه يميز بها من تختارهم السماء لحكمتها والهامها، وكأن في الدماغ مادةٕواذا كان فن العبقريين هو أسمى الكالم اإلنساني؛ لما خصوا به من هذه التهيئة، فإن فنه صلى اهللا عليه وسلم يكون وال جرم من باب األكبر مما هو أكبر في إلهام اإلنسانية

    .كلهاًيا على مزج معانيه بالنفس بما فيه من صنعة الحياة، ولهذه القوة النادرة كان بيانه قو

    ٕوانما فلسفة البيان الفني أن تمتد الحياة من النفس إلى اللفظ، فتصنع فيه صنعها، فتفصل العبارة الفنية عن كاتبها أو قائلها وهي قطعة من كالمه؛ لتستحيل عند قارئها أو

    البيان الفني هو الوسيلة لحمل سامعها قطعة من الحياة في صورة من صور اإلدراك؛ فًالوجود وبعثرته في مواضع غير مواضعه، وخلقه خلقا آخر في النفس اإلنسانية؛ وبذلك

    ًجعل نوعا من البيان هو ". ًإن من البيان لسحرا: "يؤول قوله صلى اهللا عليه وسلمبالبيان "السحر، ال البيان كله، فالحديث كالنص على ما تسميه الفلسفة األوروبية اليوم

    ًإن من البيان فنا هو سحر من عمل النفس في اللغة تغير به األشياء، : ، كأنه قال"الفنيوله عجب السحر وتأثيره وتصرفه؛ وهذا معنى لم يتنبه إليه أحد، وال يذكر معه كل ما

  • 20

    قالوه في تفسير الحديث، وبذلك التأويل يكون هذا الحديث قد احتوى أسمى حقيقة فلسفية .للفن

    ًمن أثر تلك القوة أيضا ما تراه من شدة الوضوح في كالمه صلى اهللا عليه وسلم، ولقد ورأينا هذه البالغة النبوية العجيبة قائمة على أن كل لفظ هو لفظ الحقيقة ال لفظ اللغة، فالعناية فيها بالحقائق، ثم الحقائق هي تختار ألفاظها اللغوية على منازلها؛ وبذلك يأتي

    ه نطق للحقيقة المعبر عنها، والكلمة الصادقة تنطق مرة واحدة؛ فصورتها الكالم كأن .اللغوية ال تكون إال صريحة منكشفة عن معناها المضيء كأنما ألقي فيها النور

    وهو معلوم أنه صلى اهللا عليه وسلم ال يتكلف وال يتعمل، ولم يكتب ولم يؤلف، ومع هذا ، أو تعرف له رقة من الشأن كأنما بين األلفاظ ًال تجد في بالغته موضعا يقبل التنقيح

    ومعانيها في كل بالغته مقياس وميزان، أو كأن هذه البالغة تنبثق بالكالم على طبيعة عاملة فيه بقواها الدائبة الثابتة، ففنها الجميل هو التركيب الذي تجيء فيه كما ترى

    ًالشجر مثال كاسيا من ورقه وزهره، فأنت منه بإزاء عمل جميل ألنك بإزاء حقيقة طبيعية ًقد انفردت في ذاتها، ومعنى انفرادها في ذاتها أنها كذلك هي، فليس فيها موضع لشيء غير ما هو فيها؛ ثم ال تنس أن النبوة أكبر السبب في ذلك الوضوح البياني العجيب؛ فإن الحياة ال تستغلق في البالغة بإنسان إال وهي غنية عنه؛ ولعل غموض بعض

    أال ترى .. لفالسفة وبعض الشعراء هو من دليل الطبيعة على أنهم زائدون في الطبيعةا إذ ١ًأن من أساليبهم الفلسفية والشعرية ما يجعل معنى الكلمة أحيانا هو نقض معناها

    يتصنعون للفكر ويستجلبون له ويشققون فيه كما يفعل أهل صناعة األلفاظ باأللفاظ، .وال طائل وراءهما إال صناعة وبهرجة" البديع الفكري"اك فههنا البديع اللفظي؛ وهن

    ًومتى كان النبي قسما من الحياة، بل مادة لمعانيها الجديدة، فلن يكون بيانه إال على ما ًوصفنا لك جماال، ووضوحا، ومنفعة، ودقة، وسموا بقدر ذلك كله ً ً.

    قرأ ما جمع من الكالم النبوي وهنا معنى نريد أن ننبه إليه ونتكلم في سره وحقيقته، فإنك تفال تصيب فيه ما تصيبه في بالغة أدباء العالم مما فنه الكالم في المرأة، والحب،

    ال تخلو منه وال تقوم إال به، : وجمال الطبيعة، وهو في بالغة الناس كالقلب في الجسم

  • 21

    حتى تجد الكالم في المرأة وحدها شطر األدب اإلنساني، كما أن المرأة هي شطراإلنسانية، وال يعرف له صلى اهللا عليه وسلم في هذه األغراض إال كلمات بيانية جاءت بما يفوق الوصف من الجمال والدقة، متناهية في الحسن، طاهرة في الداللة، يظهر في

    : وجه بالغتها ما يظهر في وجه العذراء من طبيعة الحياء والخفر؛ كقوله في النساءأخاف أن : " فكساها امراته٢ه ألسامة بن زيد، وقد كساه قبطية، وقول"ًرفقا بالقوارير"

    وهذه استعارة، والمراد : ، قال الشريف الرضي في شرح هذه الكلمة"تصف حجم عظامهاأن القبطية برقتها تلصق بالجسم، فتبين حجم الثديين، والرادفتين، وما يشتد من لحم

    ه األعضاء، حتى تكون كالظاهرة العضدين والفخذين، فيعرف الناظر إليها مقادير هذللحظه، والممكنة للمسه، فجعلها عليه الصالة والسالم لهذه المحال كالواصفة لما خلفها، والمخبرة عما استتر بها؛ وهذه من أحسن العبارات عن هذا المعنى، ولهذا الغرض رمى

    رسول فكان". فإنها إال تشف تصف" إياكم ولبس القباطي: "عمر بن الخطاب في قوله .اهللا صلى اهللا عليه وسلم أبا عذرة هذا المعنى، ومن تبعه فإنما سلك فجه

    --------------- إن الكل باطل، معناه أن الكل ليس بباطل، ولعل : شاعر األلمان" جيته" من ذلك قول ١

    .من باب أكل النفي لإلثبات" البديع الفكري"هذا في ًء، وضموا قافه فرقا بينه وبين ما ينسب بضم القاف ثوب من ثياب مصر رقيقة بيضا٢

    .إلى القبط من غير الثيابًوهذا كالم حسن، ولكن في عبارة الحديث سرا هو من معجزات البالغة النبوية لم : قلنا

    ًيهتد إليه الشريف، على أنه هو حقيقة الفن في هذه الكلمة بخاصتها، وال نظن أن بليغا أخاف أن تصف حجم : عليه الصالة والسالم لم يقلمن بلغاء العالم يتأتى لمثله، فإنه

    ، مع أن المراد لحم األعضاء في حجمه وتكوينه، "حجم عظامها: "أعضائها، بل قالالمراة في هذا السياق، وبهذا المعرض، " أعضاء"وذلك منتهى السمو باألدب، إذ ذكر

    يق األبيض تنبه تحت الثوب الرق" األعضاء"هو في األدب الكامل أشبه بالرفث، ولفظة إلى صور ذهنية كثيرة هي التي عدها الرضي في شرحه، وهي تومئ إلى صورة أخرى

  • 22

    من ورائها، فتنزه النبي صلى اهللا عليه وسلم عن كل ذلك، وضرب الحجاب اللغوي على ؛ ألنها اللفظة الطبيعية المبرأة من كل نزغة، "العظام"وجاء بكلمة ... هذه المعاني السافرة

    ًأن تلتوي، وال تثير معنى، وال تحمل غرضا؛ إذ تكون في الحي والميت، بل هي ال تقبل بهذا أخص؛ وفي الجميل والقبيح، بل هي هنا أليق؛ وفي الشباب والهرم، بل هي في

    .هذا أوضح .واألعضاء ال تقوم إال بالعظام فالمجاز على ما ترى، والحقيقة هي ما علمت

    : ه صلى اهللا عليه وسلم وهو يذكر أوقات الصالةومن كلماته في الوصف الطبيعي قولالعصر إذا كان ظل كل شيء مثله، وكذلك ما دامت الشمس حية، والعشاء إذا غاب "

    أوائله وفروعه المتقدمة منه، كالذي : ، وكواهل الليل"الشفق إلى أن تمضي كواهل الليله رجل متى يصلي يتقدم المطايا من أعناقها الممتدة بعض االمتداد؛ وقوله وقد سأل

    إذا طلع : "؛ وقوله"ٍإذا مأل الليل بطن كل واد: "العشاء اآلخرة، فقال عليه الصالة والسالمًإن رجال من أهل الجنة استأذن ربه : "، وقوله"حاجب الشمس فأخروا الصالة حتى ترتفع

    فبذر فبادر: قال. بلى ولكني أحب أن أزرع: ألست فيما شئت؟ قال: في الزرع، فقال لهبينا رجل يمشي فاشتد : "وقوله". الطرف نباته واستواؤه واستحصاده فكان أمثال الجبال

    ًعليه العطش، فنزل بئرا، فشرب منها ثم خرج، فإذا بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فمأل خفه ثم أمسكه بفيه، ثم رقى فسقى الكلب ! لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي: فقال

    ًيا رسول اهللا، وان لنا في البهائم أجرا؟ قال: ، قالوا"فشكر اهللا له، فغفر له في كل كبد : "ٕ ".رطبة أجر

    فهذا ونحوه من الفن البديع النادر، وهو مع ذلك ال يأتي في كالمه صلى اهللا عليه وسلم إال في مثل ما رأيت، فال يراد منه استجالب العبارة، وال صناعة الخيال، فيظن من ال

    و البالغة النبوية من فن وصف الطبيعة والجمال والحب، دليل يميز وال يحقق أن خلبداوة وسذاجة ونحو ذلك مما تشبهه الغفلة على جهلة : على ما ينكره أو يستجفيه، ويقول

    ٕالمستشرقين ومن في حكمهم من ضعاف أدبائنا وجهلة كتابنا، وانما انتفى ذلك عن ه ال ينبغي له كما بسطناه في النبي صلى اهللا عليه وسلم النتفاء الشعر عنه وكون

  • 23

    ؛ فعمله أن يهدي اإلنسانية ال أن يزين لها، وأن يدلها على ما يجب في ١موضعهالعمل، ال ما يحسن في صناعة الكالم، وأن يهديها إلى ما تفعله لتسمو به، ال إلى ما

    به والخيال هو الشيء الحقيقي عند النفس في ساعة االنفعال والتأثر . تتخيله لتلهو بهًفقط، ومعنى هذا أنه ال يكون أبدا حقيقة ثابتة، فال يكون إال كذبا على الحقيقة ً.

    يتصل بالطبيعة ليستملي منها؛ : ثم هو صلى اهللا عليه وسلم ليس كغيره من بلغاء الناسبل هو نبي مرسل متصل بمصدرها األزلي ليملي فيها، وقد كانت آخر ابتسامة له في

    يتهلل لطهارة النفس المؤمنة وجمالها قائمة بين يدي خالقها، ٢الدنيا ابتسامات للصالةًمنسكبا في طهارتها روح النور، وكل إنسان إنما يبدو الكون في عينه على ما يرى مما

    يبدو له كأنه يصلي في ٣يشبه ما في نفسه، فكل ما رآه المصلي الخاشع في صالتهًلسكران في سكره يكاد يراه متخبطا ضرب من العبادة على نحو من الدين، وكل ما رآه ا

    !يعربد ما يتماسكثم إن الكالم في وصف الطبيعة والجمال والحب على طريقة األساليب البيانية، إنما هو باب من األحالم؛ إذ ال بد فيه من عيني شاعر، أو نظرة عاشق؛ وهنا نبي يوحى إليه،

    ه تقوية الشعور اإلنساني بحقيقة ما ًفال موضع للخيال في أمره، إال ما كان تمثيال يراد بفي بعض ما يعرض من باب اإلرشاد والموعظة، كما مر بك من أمثلته، وكقوله صلى

    ٕإن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وان : "اهللا عليه وسلمه تلك ، وهذا كالم أبلغ ما أنت واجد من تفسير!"الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه

    النفس المؤمنة بإحساسها الرقيق، كأنه حاسة من النور كبت في شعورها، وتلك النفس ....الفاجرة بإحساسها الغليظ، كأنه حاسة من التراب

    --------------- ".إعجاز القرآن" كتابنا ١ عن أنس أن أبا بكر كان يصلي بهم في وجع النبي صلى اهللا عليه وسلم الذي توفي ٢

    إذا كان يوم االثنين وهم صفوف في الصالة، فكشف النبي صلى اهللا عليه فيه، حتى وسلم ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم يضحك،

  • 24

    فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى اهللا عليه وسلم، فنكص أبو بكر على عقبيه م خارج إلى الصالة، فأشار إلينا النبي ليصل الصف، وظن أن النبي صلى اهللا عليه وسل

    .صلى اهللا عليه وسلم أن أتموا صالتكم، وأرخى الستر، فتوفي من يومهال : " من الكلمات الجميلة الدقيقة في نحو هذا المعنى قوله عليه الصالة والسالم٣

    ".تزالون في صالة ما انتظرتم الصالةبه أن يحس بحركة جبل يهم أن ينقلع ّويكاد المؤمن الذي يسمع هذا الوصف يذكره ذنو

    ّفيميل عليه، أما الفاجر فيسمعه يذكره ذنوبه فإذا هي في خياله نقط سود تمر مرور وجعل .. الذباب، ليس منه إال الحس به، كما يحس من يضرب على أنفه برجل ذبابة

    لذباب الذباب يمر على أنفه دون عينه أو فمه، وذلك منتهى الجمال في التصوير؛ ألن اإذا وقع على الفم أو العين ثبت وألح، فإذا وقع على قصبة األنف لم يكد يقف ومر

    .مرورهالكون في نظر النبي صلى اهللا عليه وسلم آية الحكمة ال آية الفن، ومنظر المستيقن ال منظر المتخيل، ومادة العبودية هللا ال مادة التأله لإلنسان، وبذلك حرم اإلسالم أشياء

    ًياء ال يكون الفن بغيرها فنا، في ضروب من الشعر والتصوير والموسيقى وكره أشًوالحب؛ ألنه إنما ينظر لإلنسان واحدا وجمعا، وحاضرا وآتيا؛ وواجبا ومنفعة، ولذة وألما؛ ً ً ً ً ًوهذه كلها ال إطالق فيها إال من أجل القيد، على حين أن الفن ال قيد فيه إال من أجل

    حظ الجماعة وقيودها، وأساس الفن الفرد وحريته؛ وهذه الحياة ال اإلطالق، وأساس الدينتبدو في حالة تركيب وانتظام إال إذا كانت للكل، فإذا كانت لفرد ظهرت في هيئة انحالل

    .وانتقاض، وأصبحت في الكون كله عمر إنسان واحديطان هو اللون ًثم إن للفن ألوانا ال بد منها لتصويره الجميل الذي تعجب به النفس، والش

    ًأي هو أشدها زهوا واشراقا وجماال في التصوير الفني لكل ما في المرأة ... األحمر فيها ً ٕ ًوالحب والجمال وشهوات النفس، ولسنا ننكر أن الحياة القوية حين تمازجها هذه الفنون ًتكسب مرحا ونشاطا ويكون لها رونق، وفيها متاع؛ ولكن الحياة ال تكون بها كذلك إال ً

    فلها بعد من عاقبة هذه الفنون شبيه بما يكون للجسم القوي ... من أنها تحتسي خمرها

  • 25

    من عاقبة الخمر إذا تغلغلت الخمر في شعاب كبده وأحاطت رطبتها يابسة، كما وقع في أطوار كثيرة من تاريخ األمم؛ فليس االعتبار في هذا التشبيه بما يعرض من تأثير

    فن حياتها، بل الشأن للعاقبة المحتومة متى جاءت ساعتها الساعة الزائلة بأفراحها والباقية بأحزانها وفن هالكها، فاإلسالم فيما حرم وكره من ذلك لم يزد على أن أراد للحياة

    .أن تحيا؛ ألنه ال يقر صورة من صور انتحارهاال جرم ًومن كان أكبر عمله إنشاء الحقائق اإلنسانية وتقريرها شريعة وعاطفة وأعماال، ف

    كان فنه غير الذي أكبر عمله تمويه تلك الحقائق وزخرفتها؛ ليقع اإلحساس بها على غير وجهها، فتخف بالواقع منها على النفس خفة الكذب في ساعة تصديقه وهذا هو

    .أكبر عمل الشعروههنا سر دقيق ال يتم كالمنا إال بشرحه؛ لنقطع القول في هذا المعنى، فيظهر حقه من

    ًقلنا آنفا إن النبي صلى اهللا عليه وسلم ليس كغيره من بلغاء الناس؛ يتصل باطله بالطبيعة يستملي منها، بل هو نبي مرسل متصل بمصدرها األزلي ليملي فيها، ومعنى هذا أنه ال يعرض له من زيغ النفس ما يعرض لغيره من الناس، فأحكم حكماء الدنيا ال

    ًيستطيع أن يتبين جزءا صغيرا من ا ًلكون فهما صادقا جزما ال يتم إال بفهم الكون ً ًًًبأجمعه، فهو كله ذرة مكبرة إلى ما ال ينتهي وال يحد، وليست النبوة شيئا غير االتصال

    .بالسروالحاضر الذي يكون في إنسان من الناس، هو حاضر ليس غير؛ ألنه يتحول ويفنى،

    اة البشرية الفانية، ولهذا كان فهو من الزيغ الذي يعتري النفس، ومنه كل أغراض الحيطابع اهللا على نبينا صلى اهللا عليه وسلم هو تجريده من زيغ الهوى وسرف الطبيعة، فهو من الناس ولكنه متخلق بأخالق اهللا سبحانه، وله في هذا الباب ما ليس ألحد وال

    اهللا ًيطيقه أحد، ويجب على من يقرأ سيرته وشمائله وحديثه أن يبحث دائما عن طابع في كل شيء منها، فإنه سيرى حينئذ كأنه يدرسها مع المالئكة ال مع الناس، وسيظهر له من تفسيرها أن الدنيا لم تستطع تحقيق غايتها األخالقية العليا إال فيها، وأنه صلى ًاهللا عليه وسلم كان إنسانا، وكان أيضا حركة في تقدم اإلنسانية؛ وأن من معجزاته أنه ً

  • 26

    يخه ما عجزت عنه البشرية في تاريخها، وأن كل أموره صلى اهللا عليه أطلق في تاروسلم موضوعة وضعا إلهيا كأنها صفات كونها اهللا وعلقها في التاريخ لمعاني الحياة، ً

    .تعليق الشمس في السماء لمواد الحياةإن الشهوات والمصالح إنما هي حصر النفس في جانب من الشعور محدود بلذات

    وأحاسيس تجعل غرض اإلنسان نفسه، فهو كما يمأل معدته ويتأنق في االختيار وهموم .. لها، يريد من كل ذلك أن يمأل شخصه على هذه الطريقة بعينها، طريقة إشباع معدته

    وبهذا تسخر منه حقائق الكون؛ ألنها ال تحد بشخص، وال تنحصر في أحد، وكل من فهو في مقدار هذا الكون كالميت المحدود كانت حدوده اإلنسانية جسمه ولذات جسمه،

    ٕمن األرض كلها بقبره وتراب قبره؛ وانه ليجد جسمه وأكاذيب الطبيعة عليه، ولكنه لن ٕيجد الروح وحقائقها؛ واذا لم يجد هذه فلن يعرف الكون وأسراره؛ واذا فقد هذا فهو ٕ

    ًدوعا، وشهوة ٕالحاضر الضيق المشوه المكذوب، ومن ثم ففنه شهوة إحساسه وان كان مخٕنظره وان كان ملبسا عليه، وشهوة خياله، وان كان التمويه والزور والحاضر الضيق ًٕ

    فإذا اتسع اإلنسان " بالدنيا"المشوه المكذوب الخادع هو المسمى في لغة القرآن والحديث لروحه وأدرك حقيقتها، ووعى ما بينها وبين الكون؛ وأخذ يحقق هذه الروح السماوية في

    ، وتخطى حدود جسمه إلى فكرة الخلود؛ فهذا كله هو المسمى في لغة القرآن أعماله؛ فهما كلمتان في منتهى اإلبداع من الفن والفلسفة؛ وعلى ذلك يؤول "باآلخرة"والحديث

    من كان همه اآلخرة جمع اهللا شمله، وجعل غناه : "قوله صلى اهللا عليه وسلم في خطبتهة؛ ومن كان همه الدنيا فرق اهللا أمره وجعل فقره بين في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغم

    ".عينيه، ولم يأته من الدنيا إال ما كتب لهوأنت إذا فسرت هذه الكلمات بما وصفنا لك ووجهتها على ذلك التأويل، رأيت عجائب

    إني على علم من اهللا : "معانيها ال تنقضي، وأدركت سر قوله صلى اهللا عليه وسلمالذات اإلنسانية وممادتها لحقائق الكون، يجعل اإلنسان كالكون نفسه، فاتساع " علمنيه

    ًمجتمعا غير مفرق على هموم الحياة؛ ويجعل الغنى معنى ال مادة؛ ولو امتلك إنسان من الناس كل ما طلعت عليه الشمس، وكان له كنز في الشرق وكنز في المغرب، لما

  • 27

    ًبلغ شيئا قليال من لذة هذا المعنى في قل به؛ وفي هذه الحالة تصبح الدنيا العريضة التي ًيهلك الناس في تحصيلها وليست إال ضرورة صغيرة، قد تكون في ثوب ولقيمات ونحوها مما ال خطر له، وهذا هو إرغامها وهي مالكة الملوك، فإذا ضاق اإلنسان عن روحه

    ه وال يمسك أصبحت النفس كالمنخل يوضع الدقيق الناعم فيه؛ ليخرج منه فيمسكه كلٕمنه شيئا، ووضع بين عينيها معنى الفقر، فهي تعمل أبدا لتمتلئ، وال تمتلئ أبدا؛ واذا ً ً ًًكان المنخل متخذا على الطريقة التي صنع بها، ففقره وال جرم معلق عليه من ذات

    ؟"أفهمت. "تركيبهًولما كان النبي صلى اهللا عليه وسلم متساوقا مع الحقيقة، متصال بها، مح ًدودا بربه ال ً

    ًبنفسه، كان لذلك خارجا من حاضر ما نحن فيه، ممتدا بمعناه اإلنساني الكامل إلى ًالمستقبل الذي وراء الحياة، فما نحصره نحن بطبيعتنا في بعض األسماء ال يلتفت هو إليه بطبيعته؛ ومن ذلك أوصاف الغنى والحلية والنعيم والمتاع والجمال والمطعم

    اخل الطبيعة من مثل معانيها، وما جرى هذا المجرى، فهذا كله يراه والمشرب، وما دالناس من جهة الحاجة إليه والمطمع فيه؛ إذ كان ضعف إدراكهم وضيق وعيهم مما يبدع لهم أكاذيب الخيال، فتجيء من ذلك أوصافهم وفنون أوصافهم؛ أما النبي صلى

    و عليه؛ إذ كان ال ينظر بطبيعة اهللا عليه وسلم فيرى ذلك من ناحية الغنى عنه والسمروحه العظيمة إال أعلى النظرين وأطهرهما، فآخر إدراكنا للحقيقة والطبيعة أول إدراكه

    .هو الطبيعة والحقيقة، وما تعجز عنه اإلنسانية تبدأ منه النبوةوعلى هذا فإن من أقوى البراهين على كماله صلى اهللا عليه وسلم ونبوته واتساع روحه

    أنه لم يتبسط في تلك الفنون كما يصنع البلغاء، ولم يأخذ -إدراكه لحقائق الكون ونفاذ .مأخذهم فيها؛ إذ كانت كلها من أكاذيب القلب والفكر والعين

    وفي قانون الحقيقة أن األشياء هي كل األشياء وهي كما هي، أما في قانون الكذب .فاألشياء كلها هي ما تختاره أنت منها، وكما تختاره

    بحسب الدنيا من جمال فنه صلى اهللا عليه وسلم ما يضيف إلى الحياة عظمة األشياء العظيمة، ويدفع اإلنسانية في طريقها الواحد الذي هو بين األب واألم، طريق األخ إلى

  • 28

    أخيه، يكون في الدنيا بين الرجلين كما هو في الدم بين القلبين رحمة ومودة؛ وبحسبنا هدي اإلنسان إلى حقيقة نفسه؛ فيقره في الحقيقي من وجوده من جمال هذا الفن ما ي

    اإلنساني؛ ويجعل الفضائل كلها تربية للقلب؛ يكبر بها، ثم يكبر، ثم ال يزال يكبر حتى .اهللا أكبر: يتسع لحقيقة هذه الكلمة الكبرى

    �������������������

  • 29

    ١قرآن الفجر

    ًفظا وجودة بأحكام القراءة؛ ونحن كنت في العاشرة من سني وقد جمعت القرآن كله ح كبير القضاة - رحمه اهللا- عاصمة البحيرة؛ وكان أبي " دمنهور"يومئذ في مدينة

    الشرعيين في هذا اإلقليم، ومن عادته أنه كان يعتكف كل سنة في أحد المساجد عشرة األيام األخيرة من شهر رمضان، يدخل المسجد فال يبرحه إال ليلة عيد الفطر بعد

    قضاء الصوم؛ فهناك يتأمل ويتعبد ويتصل بمعناه الحق، وينظر إلى الزائل بمعنى انالخالد، ويطل على الدنيا إطالل الواقف على األيام السائرة ويغير الحياة في عمله وفكره، ويهجر تراب األرض فال يمشي عليه، وتراب المعاني األرضية فال يتعرض له، ويدخل

    قيود النفس، ويستقر في المكان المملوء للجميع بفكرة واحدة في الزمن المتحرر من أكثر ّال تتغير؛ ثم ال يرى من الناس إال هذا النوع المرطب الروح بالوضوء، المدعو إلى دخول المسجد بدعوة القوة السامية، المنحني في ركوعه؛ ليخضع لغير المعاني الذليلة،

    .الساجد بين يدي ربه؛ ليدرك معنى الجالل األعظموما هي حكمة هذه األمكنة التي تقام لعبادة اهللا؟ إنها أمكنة قائمة في الحياة، تشعر

    ...القلب البشري في نزاع الدنيا أنه في إنسان ال في بهيمةوذهبت ليلة فبت عند أبي في المسجد؛ فلما كنا في جوف الليل األخير أيقظني للسحور،

    لى قراءته؛ فلما كان السحر األعلى هتف ثم أمرني فتوضأت لصالة الفجر وأقبل هو عاللهم لك الحمد؛ أنت نور السموات واألرض، ولك الحمد؛ أنت بهاء : بالدعاء المأثور

    ّالسموات واألرض، ولك الحمد؛ أنت زين السموات واألرض، ولك الحمد؛ أنت قيام .ءإلى آخر الدعا... السموات واألرض ومن فيهن ومن عليهن؛ أنت الحق ومنك الحق

    --------------- ..! أنشأها قبل موته بثالثة أشهر، فاعجب له يذكر أوليته وهو على أبواب آخرته١

    وجلسنا " الدكة"وأقبل الناس ينتابون المسجد، فانحدرنا من تلك العلية التي يسمونها وكانت المساجد في ذلك العهد تضاء بقناديل الزيت، في كل قنديل ذبالة . ننتظر الصالة

    ًش النور فيها خافتا ضئيال يبص بصيصا كأنه بعض معاني الضوء ال الضوء يرتع ً ً

  • 30

    نفسه؛ فكانت هذه القناديل والظالم يرتج حولها، تلوح كأنها شقوق مضيئة في الجو، فال تكشف الليل ولكن تكشف أسراره الجميلة، وتبدو في الظلمة كأنها تفسير ضعيف لمعنى

    عر النفس إال أن العين تمتد في ضوئها من المنظور غامض يومئ إليه وال يبينه، فما تش .إلى غير المنظور كأنها سر يشف عن سر

    ٕوكان لها منظر كمنظر النجوم يتم جمال الليل بإلقائه الشعل في أطرافه العليا والباس الظالم زينته النوارنية؛ فكان الجالس في المسجد وقت السحر يشعر بالحياة كأنها

    مكان بقايا أحالم، ويسري حوله ذلك المجهور الذي سيخرج منه مخبوءة، ويحس في الًالغد؛ وفي هذا الظالم النوراني تنكشف له أعماقه منسكبا فيها روح المسجد، فتعتريه ًحالة روحانية يستكين فيها للقدر هادئا وادعا راجعا إلى نفسه، مجتمعا في حواسه، ً ً ً

    ًمنفردا بصفاته، منعكسا عليه نور قلبه؛ كأ نه خرج من سلطان ما يضيء عليه النهار، ً .أو كأن الظلمة قد طمست فيه على ألوان األرض

    ثم يشعر بالفجر في ذلك الغبش عند اختالط آخر الظالم بأول الضوء، شعورا نديا كأن ًالمالئكة قد هبطت تحمل سحابة رقيقة تمسح بها على قلبه؛ ليتنضر من يبس، ويرق

    ًع الفجر؛ ليتناول النهار من أيديهم مبدوءا بالرحمة مفتتحا من غلظة، وكأنما جاؤوه م ًبالجمال؛ فإذا كان شاعر النفس التقى فيه النور السماوي بالنور اإلنساني فإذا هو يتألأل

    .في روحه تحت الفجرًال أنسى أبدا تلك الساعة ونحن في جو المسجد، والقناديل معلقة كالنجوم في مناطها من

    سرج ترتعش فيها ارتعاش خواطر الحب، والناس جالسون عليهم وقار الفلك، وتلك الأرواحهم، ومن حول كل إنسان هدوء قلبه وقد استبهمت األشياء في نظر العين ليلبسها اإلحساس الروحاني في النفس، فيكون لكل شيء معناه الذي هو منه ومعناه الذي ليس

    .لمتخيلمنه، فيخلق فيه الجمال الشعري كما يخلق للنظر اوقد انبعث في جو المسجد صوت غرد رخيم يشق سدفة الليل . ًال أنسى أبدا تلك الساعة

    : في مثل رنين الجرس تحت األفق العالي وهو يرتل هذه اآليات من آخر سورة النحلِادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي ه{ ِ ِ ِ ِ ِ ِِ ِ ِ ِْ ُ َْ ْ ْ َْ ََ ََ َ ََ ِ ْ َ َ ْ َ ِ َ ُ َُي َأحسن إن ربك هو ْ َ َ ِ ُ َ ْ َ

  • 31

    َِأعلم بمن ضل عن سبيله وهو َأعلم بالمهتدين وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ِ ِ ِ ِ ِِ ِ ِ ِ ِْ ُْ ُ َْ ْ ْ ِْ ُ ُ َ َ ََ ُ َِ ْ َ ََ ََ َ ْ ْ َِْٕ َ ََ ْ ْ ُ َُُولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إال بالله وال َ َ َ َِ ِ ِِ ِ ِ ِ َ ُ ُ ْْ َْ ََ ْ ْْ َ ِ ٌ َ َ َُ َ ِ تحزن عليهم وال تك في ْ ُ َ ََ ْ ِ ْ َْ َ ْ َ

    َضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون َ َ َُ ْ ِْ ِ ِ ُِ ْ َ َْ ُُ َ َ َ َ َ ِ ُ ْ ٍ{. وكان هذا القارئ يملك صوته أتم ما يملك ذو الصوت المطرب؛ فكان يتصرف به أحلى

    يب كل مبلغ يقدر عليه القادر، مما يتصرف القمري وهو ينوح في أنغامه، وبلغ في التطرحتى ال تفسر اللذة الموسيقية بأبدع مما فسرها هذا الصوت؛ وما كان إال كالبلبل هزته

    .الطبيعة بأسلوبها في جمال القمر، فاهتز يجاوبها بأسلوبه في جمال التغريدكان صوته على ترتيب عجيب في نغماته، يجمع بين قوة الرقة وبين رقة القوة،

    ً اضطرابا روحانيا كالحزن اعتراه الفرح على فجأة؛ يصيح الصيحة تترجح في ويضطرب ًالجو وفي النفس، وتتردد في المكان وفي القلب، ويتحول بها الكالم اإللهي إلى شيء ٕحقيقي، يلمس الروح فيرفض عليها بمثل الندى، فإذا هي ترف رفيفا، واذا هي كالزهرة ً ّ

    .التي مسحها الطلً غضا طريا كأول ما نزل به الوحي، فكان هذا الصوت الجميل يدور في وسمعنا القرآن ً

    النفس كأنه بعض السر الذي يدور في نظام العالم، وكان القلب وهو يتلقى اآليات كقلب .الشجرة يتناول الماء ويكسوها منه

    واهتز المكان والزمان كأنما تجلى المتكلم سبحانه وتعالى في كالمه، وبدا الفجر كأنه !واقف يستأذن اهللا أن يضيء من هذا النور

    وكنا نسمع قرآن الفجر وكأنما محيت الدنيا التي في الخارج من المسجد وبطل باطلها، فلم يبق على األرض إال اإلنسانية الطاهرة ومكان العبادة؛ وهذه هي معجزة الروح متى

    .ًكان اإلنسان في لذة روحه مرتفعا على طبيعته األرضيةَل الذي كان في يومئذ فكأنما دعي بكل ذلك؛ ليحمل هذه الرسالة ويؤديها إلى أما الطف

    ادع إلى سبيل : الرجل الذي يجيء فيه من بعد؛ فأنا في كل حالة أخضع لهذا الصوت !واصبر وما صبرك إال باهللا: ربك؛ وأنا في كل ضائقة أخشع لهذا الصوت

    ����������������

  • 32

  • 33

    اعتبارھا من مقومات ا3ستق+ل ب١اللغة والدين والعادات

    ليست حقيقة األمة في هذا الظاهر الذي يبدو من شعب مجتمع محكوم بقوانينه وأوضاعه؛ ولكن تلك الحقيقة هي الكائن الروحي المكتن في الشعب، الخالص له من طبيعته، المقصور عليه في تركيبه كعصير الشجرة؛ ال يرى عمله والشجرة كلها هي

    .عملها الكائن الروحي هو الصورة الكبرى للنسب في ذوي الوشيجة من األفراد، بيد أنه وهذ

    يحقق في الشعب قرابة الصفات بعضها من بعض؛ فيجعل لألمة شأن األسرة، ويخلق في الوطن معنى الدار، ويوجد في االختالف نزعة التشابه، ويرد المتعدد إلى طبيعة

    ة، ويوجب لهذه الشخصية بإزاء غيرها قانون الوحدة، ويبدع لألمة شخصيتها المتميزالتناصر والحمية؛ إذ يجعل الخواطر مشتركة، والدواعي مستوية، والنوزاع متآزرة؛

    ًتتساند له بقواها ويشد بعضها بعضا فيه؛ وبهذا كله : فتجتمع األمة كلها على الرأي .يكون روح األمة قد وضع في كلمة األمة معناها

    نشئه لألمة كائنها الروحي، هو المبادئ المنتزعة من أثر الدين والخلق القوي الذي يواللغة والعادات، وهو قانون نافذ يستمد قوته من نفسه؛ إذ يعمل في الحيز الباطن من ًوراء الشعور، متسلطا على الفكر، مصرفا لبواعث النفس؛ فهو وحده الذي يمأل الحي ً

    نه على التحقيق وضع األجداد عالمتهم بنوع حياته، وهو طابع الزمن على األمم، وكأ .الخاصة على ذريتهم

    ًأما اللغة فهي صورة وجود األمة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها، وجودا متميزا قائما ً ًبخصائصه؛ فهي قومية الفكر، تتحد بها األمة في صور التفكير وأساليب أخذ المعنى

    دقة الملكات في أهلها، وعمقها هو عمق من المادة؛ والدقة في تركيب اللغة دليل على الروح ودليل الحسن على ميل األمة إلى التفكير والبحث في األسباب والعلل، وكثرة مشتقاتها برهان على نزعة الحرية وطماحها؛ فإن روح االستعباد ضيق ال يتسع، ودأبه

    .لزوم الكلمة والكلمات القليلة

  • 34

    متها حريصة عليها، ناهضة بها، متسعة فيها، ٕواذا كانت اللغة بهذه المنزلة، وكانت أمكبرة شأنها، فما يأتي ذلك إال من روح التسلط في شعبها والمطابقة بين طبيعته وعمل طبيعته، وكونه سيد أمره؛ ومحقق وجوده، ومستعمل قوته، واآلخذ بحقه، فأما إذا كان

    ها، وتهوين خطرها، ٕمنه التراخي واإلهمال وترك اللغة للطبيعة السوقية، واصغار أمرٕوايثار غيرها بالحب واإلكبار؛ فهذا شعب خادم ال مخدوم، تابع ال متبوع، ضعيف عن ٍتكاليف السيادة، ال يطيق أن يحمل عظمة ميراثه، مجتزئ ببعض حقه، مكتف